قُدِّرت التكاليف السنوية المتعلقة بالإهمال الطبي نحو 55.6 مليار دولار أمريكي في الولايات المتحدة الأمريكية، وقد يُعرِّض الطبيب نفسه لهذه المشكلات لأسباب كثيرة غير الخطأ الطبي، ومِنْ ثَمَّ فهو بحاجةٍ إلى أن يحمي نفسه ومساره المهني من مثل هذه العقبات التي قد تُهدِّد مهنته، فكيف يحمي الطبيب نفسه من الدعاوى القضائية؟
ما هي الدعاوى القضائية بسبب الإهمال الطبي؟
ادّعاء سوء الممارسة الطبية من قِبل المرضى هو ما يعنيه الإهمال الطبي، فعندما يرفع أحد ادعاءً بالإهمال الطبي، فإنّه يعني أنّه لم يتلقّ مستوى الرعاية المطلوبة والضرورية لحالته، وعادةً ما يُقدِّم بعض الأشخاص هذه المُطالبات في المواقف التي تتدهور فيها حالتهم الصحية تحت أعين المُتخصصين.
ولذلك أسباب كثيرة، فقد يُهمِل الطبيب المريض حقيقةً كأن يصف دواءً غير فعال أو لا يُلائم حالة المريض، أو غير مُوصى به من قبل الإرشادات واللوائح الطبية لمثل لهذه الحالة المرضية، أو قد يُقدِّم الطبيب مشورة سيئة للمريض تُؤدِي إلى تدهور حالته.
غاية الأمر أنّ المريض لا يكون راضيًا عن نتائج العلاج، ومِنْ ثَمّ يدّعي الإهمال الطبي مِن قِبل الطبيب الذي عالجه، والإهمال الطبي الحقيقي هو ذلك الذي يُؤدِّي إلى إصابة المريض أو إلحاق ضرر بالغ به.
إحصائيات حول الدعاوى القضائية ضد الأطباء
كشفت دراسة RAND بعض الخبايا بشأن مخاطر سوء الممارسة أو الإهمال الطبي، فكانت النتائج:
- ببلوغ الأطباء 45 عامًا، فإنَّ 36% من الأطباء العاملين في تخصّصات منخفضة الخطورة، و88% من الأطباء العاملين في تخصّصات عالية الخطورة، لديهم ادعاء واحد على الأقل بالإهمال الطبي.
- ببلوغ الأطباء 65 عامًا، فإنَّ 75% من الأطباء العاملين في تخصصات منخفضة الخطورة، و99% من الأطباء العاملين في تخصصات عالية الخطورة، لديهم ادعاء واحد على الأقل بالإهمال الطبي.
- عبر التخصصات الطبية المختلفة، كان متوسط مدفوعات التعويض عن مطالبات سوء الممارسة 274,887 دولار أمريكي.
ليس الهدف من سرد هذه الأرقام إثارة مخاوفك، لكن للتنبيه على الحاجة الحقيقية لحماية نفسك من الدعاوى القضائية التي قد يُقِيمها المرضى، خاصةً مع كثرة التعامل مع المرضى بصفةٍ يومية، واحتمال وقوع الخطأ بلا شك.
ثمّة اعتقاد شائع بأنَّ أغلب الأخطاء الطبية لا تقع إلَّا مع الإجراءات الجراحية الخطيرة، لكن الحقيقة أنَّ معظم ادَّعاءات سوء الممارسة ناجمة عن أخطاء بسيطة.
بالتأكيد ستخرج بعض المواقف عن السيطرة ويكون ادعاء سوء الممارسة أمر لا مفر منه، لكن أغلب هذه الدعاوى يسهل تفاديها وتجنُّبها؛ إذ الفرق بين رفع دعوى قضائية وأن تكون العلاقة طيّبة بين الطبيب والمريض يكمن في إدراك المواقف وإدارة بعض التفاصيل الجوهرية البسيطة؛ لتجنُّب أي أضرارٍ محتملة ناجمة عن أحداثٍ خارجية لا أخطاءٍ طبيةٍ بالمعنى الحرفي لها.
كيف تحمي نفسك من الدعاوى القضائية للمرضى؟
يُمكِن للطبيب أن يتحاشى الدعاوى القضائية للمرضى من خلال أداء مهمته وفق الإرشادات الطبية الحديثة، وهذا بدهي يفعله كل طبيب، لكن قد تغيب عنك بعض النقاط الأخرى والتي هي ضرورية أيضًا لحماية مسارك المهني:
1. التواصل الصحيح مع المرضى
أهم شيء تفعله لتجنّب ادعاء سوء الممارسة من قِبل المريض هو التواصل الصحيح معه وأن يكون الكلام بينكما واضحًا؛ لأنّ أغلب الأخطاء التي تستدعي دعاوى سوء الممارسة هي أخطاء في التواصل بين الطبيب والمريض بصورة رئيسة.
لا يهم مدى موهبتك أو تعليمك أو خبرتك الطبية، فإذا كان أسلوبك مع المريض يثير دومًا أعصابه، فقد يُحاوِل أن يجد طريقة لرفع دعوى قضائية؛ لذا كُن مهذبًا معه، اسأله واستمع إليه واهتم به جيدًا.
دعوى الإهمال الطبي ليست لعبة، فالتعامل مع المحامين أمر ليس بالهين، كما أنَّ مشكلتك مع المريض ابتداءً؛ لذا بدلًا من إنفاق قدرٍ كبير من الوقت والمال في التعامل مع محامٍ، يُفضّل التركيز على التعامل الحسن مع المريض وإيضاح ما تفعله على وجه الدقة؛ كي لا يُسيء المريض الظنّ أو يتوقّع أنَّك ترتكب شيئًا خاطئًا.
مثلًا قد تستغرق بعض الإجراءات العلاجية البسيطة وقتًا طويلًا، أو يصحبها ألم شديد، أو يعقبها اضطرابات سيُعانيها المريض فترةً من الوقت ثُمّ تزول، وهذا جزء طبيعي من هذا العلاج، فما المانع لو أعلمت المريض مسبقًا قبل ذلك بأنّ العلاج سيفعل كذا وكذا؟ هذه هي قمّة التواصل الناجح بينك وبين المريض، كما أنَّك تُعلِمه أنّ هذه الآثار الجانبية جزءٌ من العلاج بدلًا من أن يتوجّه بدعوى قضائية من سوء ممارستك، وأنتَ لم تفعل شيئًا سوى تقديم العلاج الصحيح، ولذا كانت أغلب الدعاوى القضائية ناجمة عن سوء التواصل.
2. التوثيق وكتابة كل التفاصيل بشكل قانوني
صحيح أنَّ التواصل الجيد أهم سمة لتجنُّب شكاوى المرضى، لكنّ التوثيق أيضًا مهم للغاية في الناحية الإدارية، فالوثائق الصريحة ستخدمك إن احتجت إلى سرد موقف مُعيّن وتبرير شيء ما وقع خلال كشفك على أحد المرضى، وعلى النقيض من ذلك، فإنّ الوثائق غير الكافية أو غير الدقيقة، قد تجعلك عُرضةً لدعوى قضائية من قِبل المرضى بالإهمال الطبي، حتى لو كُنت تمارس مهنتك بأصحّ ما يكون.
طبعًا لا ينبغي توثيق كل ما يحدث بينك وبين المرضى، وإنَّما بعض النقاط هي التي ينبغي توثيقها وعدم إهمالها، مثل:
- التاريخ والوقت والتوقيع على كل دخول للمريض.
- توضيح هويات الأشخاص في تقريرك.
- تسجيل جميع النتائج والمشورة والتعليمات والقرارات وأي شيءٍ هام يتعلّق بحالة المريض.
- إذا لم تكن متأكّدًا من مدى أهمية شيءٍ ما في توثيقه من عدمه، فقُم بتوثيقه مع توقيع المريض.
3. البقاء على اطّلاع دائم بالمعايير الحالية
قد تختلف القوانين من بلدةٍ إلى أخرى، أو حتى من مستشفى إلى آخر، ومن المهم أن تكون مُطّلعًا على التحديثات والمستجدات فيها كي تتجنّب أي مفاجأة بدعوى قضائية لم تكن تتوقعها. ويمكنك الإطلاع على نظام مزاولة المهن الصحية في السعودية.
4. الحصول على موافقة مسبقة (Informed consent)
من أكبر الأخطاء إجراء جراحةٍ للمريض دون موافقة مسبقة من قِبله أو من قِبل الوصي عليه، فهذا مِمّا يُعرِّض الطبيب حتمًا لدعاوى قضائية بسوء الممارسة الطبية.
من الضروري أيضًا مناقشة كل ما يتعلّق بالإجراء الجراحي مع المريض قبل العملية كالمخاطر والتكاليف وغيرها. ولدمج أول نصيحتين هنا، فإنّ مهارات الاتصال الجيدة ضرورية لمناقشة ما يتعلّق بالعملية الجراحية مع المريض، وكذلك مهارات التوثيق لتسجيل جميع تفاصيل الموقف وما يتعلّق بحالة المريض.
5. متابعة المريض بعد الإجراء الطبي
لا تنتهي مهمتك مع المريض فور خروجه من المستشفى، بل ينبغي متابعة المرضى – الذين تتطلّب حالتهم ذلك – بعد الفحوصات لتعرف مدى تحسُّن حالتهم أو ما لو واجهوا مشكلةٍ ما أو غير ذلك.
وإذا كان أي متخصص أو طبيبٍ آخر مشاركين في علاج مريضٍ مُعيّن، فتأكّد من المتابعة معهم أيضًا للبقاء على اطلاع دائم بحالة المريض والتدخل في الجزء الذي تتخصّص فيه عند الحاجة إلى ذلك؛ كي لا تقع فريسة لدعوى الإهمال الطبي.
6- التعامل مع توقعات المريض
قد يتوقّع المرضى بعد عمليات التجميل مثلًا نتائج غير واقعية، ومِنْ ثَمّ فإذا أُجريت العملية ولم يجد المريض ما توقّعه تمامًا، فقد يتهم الطبيب بسوء الممارسة ويرفع عليه دعوى قضائية.
ربّما الطبيب لم يُخطِئ في الممارسة الطبية، لكنّه قد أخطأ بعدم التعامل مع توقعات المريض، وإعلامه بحقيقة نتائج العملية، ففي هذه الأمور ينبغي أن يكون الطبيب دقيقًا وصريحًا، سواء في نتائج العملية أو في الآثار الجانبية المُتوقّعة لها.
7. طلب المساعدة إن احتجت إليها
ربَّما احتجت مساعدة مع حالة المريض الماثلة أمامك، أو احتجت إلى مُتخصصٍ في مرضٍ مُعيَّن يُحسِن التعامل معه، وهنا قد يُؤدِّي إهمال طلب المساعدة إلى الوقوع في خطأٍ طبي يُعرِّضك لدعاوى قضائية وشكاوى من المرضى، فمهما كانت خبرتك ومهارتك، فلن تكون قادرًا على علاج كل الحالات أو تقديم الاستشارة في ما هو خارج نطاق ممارستك.
لذا ينبغي طلب المساعدة من المختصين الآخرين إن كُنتَ بحاجةٍ إليها، وهذا لا يعيب الطبيب في شيءٍ على الإطلاق، بل هو بذلك حريص على صحة المريض وحياته، بل قد يشعر المريض بالامتنان لهذا الإجراء حتى لو ساءت حالته لا قدَّر الله.
8. الحصول على تأمين طبي ضد سوء الممارسة المهنية
يُطلَق عليه أيضًا تأمين المسؤولية الطبية المهنية “Medical professional liability insurance”، وهو يحميك من ادعاءات المرضى بأنّ ممارستك ألحقت ضررًا بالمرضى أو أصابتهم، ويتضمّن ذلك التأمين تغطية الرسوم القانونية، بما في ذلك التسويات خارج المحكمة، وتلف الممتلكات والمسؤوليات الأخرى التي قد تتركك مفلسًا، أو تتسبَّب في إلغاء رخصتك المهنية. ويمكنك الإطلاع على الصيغة النموذجية لوثيقة التأمين ضد الأخطاء المهنية الطبية في السعودية.
ملخص عن حماية الطبيب من الدعاوى القضائية
تكثر الدعاوى القضائية وشكاوى المرضى من الإهمال الطبي بسبب ضعف التواصل بين الطبيب والمريض قبل أي شيءٍ وعدم إعلامه بدقة ما عليه العلاج أو التدخل الجراحي أو النتائج المتوقعة، ومِنْ ثَمّ ينبغي للطبيب أن يكون كلامه واضحًا ودقيقًا مع المريض، وأن يُوثِّق حالة المريض والتشخيص والمشورة، إضافةً إلى الحصول على موافقة مُسبقة قبل إجراء أي تدخلٍ في جسد المريض، ولا بأس باستشارة طبيب مُختص أو ذي خبرةٍ أكبر لتقديم أفضل خدمة لمريضك.