كثيرةٌ هي مشاغل الأطباء، وقلما يحصلون على راحة من العمل، فضلًا عن أن يقضوا وقتًا وفيرًا مع من يحبون؛ إذ ترجح كفّة العمل غالبًا على الحياة الخاصة للأطباء، ما قد يضر علاقاتهم الشخصية والأسرية على المدى البعيد، بل والمفاجأة أنَّه قد يُؤثِّر سلبًا في الرعاية التي يقدمها الطبيب للمريض، فكيف يُحقِّق الطبيب التوازن بين العمل والحياة الخاصة؟
أهمية التوازن بين العمل والحياة الخاصة
إيجاد التوازن بين العمل والحياة الخاصة ضروري لأي مهنة، ليست مهنة الطب فقط، وإن كانت أشدّ أهمية للأطباء بكل تأكيد. فيُواجِه أكثر من نصف الأطباء خطر الاحتراق النفسي في مرحلةٍ ما من حياتهم المهنية، وقد يكون ذلك لطغيان العمل على الحياة الخاصة، وعدم إعطاء الحياة الخاصة القدر الكافي لتحقيق التوازن النفسي لدى الطبيب.
وقد تُساعِد بعض العوامل في غياب التوازن بين العمل والحياة الخاصة، مثل:
- عدم إهتمام الطبيب بنفسه وما يحتاج إليه في حياته، أو تقديمه العمل دومًا على حياته الخاصة.
- الرغبة الدائمة في النجاح والتطور المهني حتى لو على حساب الحياة الشخصية.
- عدم ترتيب الأولويات بما يتوافق مع شخصية الطبيب ويُحافِظ على نفسيته، بل قد يُرتِّبها باعتبار التقدُّم الوظيفي والمهني مُهمِلًا الجانب النفسي.
وقد يُؤدِّي غياب التوازن بين العمل والحياة الخاصة إلى آثار واضحة منها الإجهاد والتعب وتقلب الحالة المزاجية الذي قد يصل إلى الاكتئاب ومشاكل اجتماعية وأسرية.
والجانب الذي قد لا يخطر على بال الطبيب، أنَّه بغياب التوازن بين العمل والحياة الخاصة للطبيب قد يتضرَّر منه المريض، فحسب دراسةٍ عن تأثير التوتر أو الضغوط في الرعاية الصحية، من بين 226 طبيب واجهوا ضغوطًا في العمل، 76 منهم قالوا أن هذه الضغوط أثرت على رعايتهم للمرضى.
وحسب دراسةٍ أخرى مشابهة، فإنَّ الإرهاق المهني الذي قد يُعانِيه الأطباء يُؤثِّر في سلامة الرعاية الصحية المُقدَّمة للمرضى، فالأفراد الذين يعتنون بغيرهم على الدوام، مثل الأطباء، لن يكون بمقدورهم مساعدة المرضى على الوجه الصحيح والسلامة المطلوبة، ما لم يُحقَّقوا توازنًا بين عملهم وحياتهم الشخصية.
ما العوامل التي تؤثر في التوازن بين العمل والحياة الخاصة للطبيب؟
كشفت دراسةٌ عام 2017 عن 11 شيء يُؤثِّر في التوازن بين العمل والحياة الخاصة، ومنهم:
- المساندة الاجتماعية: كُلَّما وجد الطبيب دعمًا اجتماعيًا من الأهل وحتى في العمل، تمكَّن من إدارة حياته بنهجٍ مثالي، ووازن بين العمل وحياته الخاصة، ما يُساعِد في تحسين ممارسته الطبية.
- التوتر: أكثر الأشياء التي يُواجِهها الأطباء في حياتهم المهنية، وقد يُسبِّب التوتر الإجهاد، الاكتئاب، أمراض القلب، بل وتراجع الأداء المهني بمرور الوقت، ومِنْ ثَمَّ ينبغي تحديد مصدر التوتر والتعامل معه؛ للمساعدة في الموازنة بين العمل والحياة الخاصة.
- المشكلات: سواء كانت في العمل، أو عائلية، أو فردية، أو اجتماعية، فهي كُلّها تطيح بالتوازن بين العمل والحياة الخاصة؛ إذ تُهَيمن المشكلات على تفكير الطبيب بما يجعله منشغلًا بمشكلات المنزل وهو في العمل، أو العكس أي ينشغل بمشكلات العمل وهو في المنزل.
- العمل الزائد: قد يُؤدِّي إلى تراجع التوازن بين العمل والحياة الخاصة لدى الأطباء بكل تأكيد، ومِنْ ثَمَّ لا يُنصَح الأطباء بالعمل ساعات طويلة، فذلك يقضي على صحتهم الجسدية والنفسية على حدٍ سواء.
كيف يُحقِّق الطبيب التوازن بين العمل والحياة الخاصة؟
يسع الطبيب أن يُوازِن بين العمل والحياة الخاصة من خلال:
1. وضع حاجز بين العمل والحياة الخاصة
يحتاج الأطباء إلى وضع حواجز بين العمل والحياة الخاصة؛ ليتمكَّنوا من أداء وظيفتهم بكفاءة عالية، وللحفاظ على نشاطهم على مدار اليوم.
هذه الحواجز تُساعِد في الفصل بين العمل والحياة الخاصة وإبقاء كلٍ منهم في مسارٍ مستقل:
- حواجز زمنية: بمعنى تحديد وقت ثابت كل يوم أو كل أسبوع للأنشطة الترفيهية، أو الأنشطة التي تساعدك على راحة الذهن، مثل قضاء بعض الوقت مع من تُحب، أو ممارسة بعض التمارين الرياضية التي تُفضِّلها، أو الذهاب إلى متنزه، أو أيما شئت، لكن لا ينبغي أبدًا أن يقاطع العمل هذا الوقت.
- حواجز مادية: إذا كُنتَ في بيتك بعد الانتهاء من العمل، فبمقدورك أن تُغلِق الهاتف الجوَّال؛ كي لا تقلق بشأن العمل ومتطلباته، أو على الأقل يمكنك فعل ذلك في وقت الغداء مثلًا، أو في أي وقتٍ ترغب فيه بخصوصية مناسبة بعيدًا عن ضوضاء العمل.
- حواجز ذهنية: ينبغي أن تطرد العمل من رأسك تمامًا في بعض أوقات حياتك خلال الأسبوع، فإن كانت الحواجز المادية مستحيلة، فالسيطرة على أفكارك ليست مستحيلة بكل تأكيد، والذي يكفي فقط عدم التفكير في العمل.
2. خصِّص وقتًا للعناية بنفسك
لا تعني إدارة الوقت فقط زيادة الكفاءة في العمل، وإنَّما كذلك تخطيطه بالشكل المثالي لحياتك الشخصية أيضًا.
لذا من الضروري للطبيب أن يُحدِّد وقتًا مناسبًا كل يوم، أو في كل أسبوع؛ لفعل ما يُفِيد صحته الجسدية والنفسية، ويساعده في تحقيق التوازن بين الحياة الخاصة والعمل، وقد يكون ذلك متمثلًا في بعض الأنشطة، مثل التمارين، أو قضاء الوقت مع من تحب، أو الخروج إلى متنزه، أو أي شيءٍ تجد في نفسك ميلًا إليه.
ولأنَّك طبيب فأنت تعلم جيدًا مدى الفوائد الجسدية والنفسية التي تجنيها من وراء ذلك، كتخفيف التوتر، وتحسُّن الصحة العامة، والأهم أنَّ هذا الوقت بعيد تمامًا عن العمل، وتُركِّز فيه فقط على نفسك وما ترغب فيه.
3. تفويض المهام للآخرين
من المُستحِيل أن يقوم إنسان بكل شيء، ومِنْ ثَمَّ فليست هناك مشكلة في أن يساعدك بعض زملائك في التكليفات اليومية، فهذا مِمَّا يساعد في إدارة الوقت بما يُناسِب حياتك. فقد يُساعِد تعاونك مع الزملاء، وتفويض بعض المهام إليهم إلى إعطائك مساحة من الوقت خلال اليوم، وتخفيف عبء العمل عليك.
ربَّما يتعذّر تفويض مهام العمل إلى زملاء آخرين؛ لقصور خبرتهم مثلًا، أو لأي سببٍ آخر؛ لذا يُمكِن في الناحية الأخرى تفويض بعض المهام المنزلية إلى أحد أفراد الأسرة، مثل شراء الخضروات، فهذا مِمّا يساعد في توفير وقتٍ للطبيب؛ كي يعيش حياته الشخصية بقليلٍ من الراحة ودون قلقٍ من العمل.
4. ابحث عن بيئة عمل يُناسِبك
ينبغي للطبيب محاولة العثور على بيئة عملٍ مناسبةٍ له، تُحقِّق له الرفاهية المطلوبة، وتساعده على الفصل بين حياته الشخصية والعمل، وقد تساعدك النصائح الآتية في تلبية ذلك الطلب:
- الاهتمامات ونقاط القوة: البداية بمعرفة ما تهتم به وترغب في العمل فيه سواء أكان مكانًا بمواصفات مُعيَّنة أم تخصصًا ما، إضافةً إلى معرفة نقاط قوتك الشخصية والعملية، ثُمَّ محاولة البحث عن مكان عملٍ يُلبِّي رغباتك الشخصية، ويُلائِم نقاط قوتك المعرفية والعملية.
- ابحث في بيئات العمل: ليست المستشفيات هي محل العمل الوحيد للأطباء، بل ثمّة أماكن عمل أخرى كالعيادات والمراكز الصحية المجتمعية، وغيرها، ومِنْ ثَمَّ قَيِّم كل بيئة عمل من ناحية السلبيات والإيجابيات الخاصَّة بها، ثُمَّ اختر منها ما يُناسِبك.
- سَل زملاءك: ربَّما قد عمل بعض زملائك في بيئات عمل مختلفة، واكتسبوا خبرات متنوعة، وعرفوا مميزات وعيوب كل بيئة عمل، ومِنْ ثَمَّ فقد يُوفِّرون عليك عناء البحث عن بيئة عمل مناسبة لك.
5. دع الآخرين يدعمونك
يساعد الدعم الأسري والمجتمعي في تخفيف التوتر، ومِنْ ثَمَّ تراجُع فرص المعاناة من مشكلات جسدية، بالإضافة إلى تحسُّن الصحة النفسية. فعندما يصير عبء العمل ثقيلًا على الطبيب على الصعيد النفسي والجسدي، فإنَّ دعم الزملاء وأفراد الأسرة له يُخفِّف ذلك العبء كثيرًا، ما يُساعِده لاحقًا في الموازنة بين العمل والحياة الشخصية.
وحتى لو لم ينجح الطبيب في إفراغ بعض الوقت لحياته الشخصية، فإنَّ وجود ذلك الدعم، يُساعده في العمل بأكفأ ما يمكن، وتطوير المهارات اللازمة للتعامل مع المرضى، بل وحتى التمكُّن من مواجهات تحدّيات الحياة الشخصية؛ لذا اقترِب أكثر مِمَّن يدعمك من الزملاء أو الأقارب.
6. فتِّش عن اهتمامتك
لم لا تحاول قضاء بعض الوقت للتسلية فقط؟ بعض الأنشطة التي ليس لها علاقة بالممارسة الطبية تزيل كثيرًا من التوتر الذي يُعانِيه الطبيب. فبعض الهوايات البسيطة، كالرسم الخشبي، أو الرسم بالألوان المائية، تساعد في قضاء وقتٍ هادئٍ للتفكير في الحياة الشخصية؛ لذا حاول أن تجعل هواياتك واهتماماتك جزءًا من نمط معيشتك اليومي، فقد تجد بعض الأوقات الفارغة بين ساعات العمل، التي يُمكِنك فيها ممارسة ما تهواه.
وقد كشف بحثٌ عن أنَّ الأطباء الذين يقضون أقل من ⅕ وقت العمل في ممارسة هوايات أو أشياء يحبونها، أقل عُرضةً للاحتراق النفسي مقارنةً بغيرهم، وهذا يساعد في تحقيق التوازن بين العمل والحياة الخاصة من قلب العمل نفسه.
7. خذ إجازة من العمل
قد لا تجد مساحة من يومك للحياة الخاصة، هذا وارد، لكن لا تقف مُكبّل اليدين؛ إذ يسعك أن تأخذ إجازة من العمل ولو لبضعة أيام، فقد بيَّن بحثٌ أنَّ ⅓ الأطباء يحصلون على إجازة لمدة أسبوعين أو أقل كل عام. ومثل هذه الإجازة ضرورية لحياة الطبيب، فهي لا تُخفِّف فقط التوتر المصاحب للعمل، بل تساعد في ضبط بوصلة الحياة الشخصية، وإعادة ترتيب الطبيب لأوراق حياته، وزيادة الوقت الذي يقضيه مع من يحب، ما ينعكس لاحقًا في تعزيز أدائه في الممارسة الطبية، وتقدِيم أفضل ما عنده للمرضى.
دومًا ما يُخبِر الأطباء المرضى أن يعتنوا براحتهم، وألَّا يعملوا إذا كانوا مرضى أو يُعانُون مشكلاتٍ صحية، فلم لا يفعل الطبيب نفس الأمر؟ وبمرور الوقت سيجد التوازن بين العمل والحياة الخاصة قد تحقق بكل تأكيد.
في هذا الڤيديو تشرح الدكتورة چيني لي كيف توازن بين عملها كطبيبة وحياتها الأسرية كزوج وأم